naziha محاور محترف
عدد الرسائل : 105 العمر : 45 المدينة : من أجل الانضمام لمجموعة المحاورين القانونيين لمدينتك الكلية : فرصة لتتعارف مع المحاورين القانونيين بكليتك،و لإنشاء فرق بحث و تعاون . التخصص : فرصة للتعرف على الأعضاء ذوو التخصصات المتشابهة . المستوى الحواري : عدد النقاط : 5993 تاريخ التسجيل : 18/11/2008
| موضوع: تطور قواعد النسب في القانون المغربي الإثنين يناير 02, 2012 7:01 pm | |
| بسم الله الرحمان الرحيم
تطور قواعد النسب في القانون المغربي
تعد قواعد النسب، من أهم المواضيع التي استأثرت بالاهتمام، في النقاشات الدائرة حول القانون المنظم للعلاقات الأسرية بالمغرب.
وقد ارتكزت الكثير من هذه النقاشات، حول دور الخبرة الطبية في مجال إثبات ونفي النسب، خصوصا وأنه كان هناك خلاف حول موقف الشريعة الإسلامية في هذا المجال.
وقد عرفت قواعد النسب في الكثير من التشريعات المقارنة، ومنها في بعض الدول الإسلامية، تطورا منقطع النظير، منذ مدة، بفعل اعتمادها على نتائج أحدث الأبحاث العلمية، المرتبطة بعلم الجينات، الذي يسمح بتوفير نتائج قطعية وحاسمة، حال حصول خلاف أو نزاع في هذا المجال.
وقد أقر المشرع بإمكانية الاعتداد بالخبرة أمام القضاء المغربي، في الكثير من المجالات، منذ مدة طويلة، ومنها الاعتداد بالخبرة الطبية في مجال قانون الأسرة منذ صدوره، وفي عدة قواعد غير قواعد إثبات ونفي النسب، التي أورد سند اللجوء إليها فقط ابتداء من مدونة الأسرة الصادرة في 2004.
وإذا كانت مدونة الأسرة الجديدة، قد أشارت إلى "الخبرة" و"الخبرة القضائية"، كوسيلة يمكن اللجوء إليها للفصل في النزاعات المتعلقة بالنسب، فإن هذه العبارات، لها دلالات كبيرة، حيث إن المشرع لم يشر بوضوح وبشكل صريح إلى "الخبرة الطبية" وخصوصا في جانبها المعتمد على علم الجينات.
وهذا يجعلنا نتساءل عن العوامل التي جعلت المشرع المغربي، يمتنع عن النص الصريح على ذلك في مدونة الأسرة الجديدة.
ويمكن فهم هذا التردد، من خلال بسط تطور قواعد النسب في القانون المغربي، حيث نميز بين مرحلة استبعاد "الخبرة الطبية" (المبحث1) ومرحلة الأخذ "بالخبرة" (المبحث2).
المبحث الأول : مرحلة استبعاد "الخبرة الطبية"
امتدت هذه المرحلة إلى حدود فبراير 2004، تاريخ صدور مدونة الأسرة الجديدة. وتميزت بفراغ تشريعي في هذا المجال (الفقرة الأولى)، وباستبعاد قضائي واضح (الفقرة الثانية).
الفقرة الأول : الفراغ التشريعي
ورد النص على قواعد النسب في مدونة الأحوال الشخصية القديمة، في الفصول من 83 إلى 96، ضمن كتاب "الولادة ونتائجها".
وقواعد النسب في المدونة القديمة، مستمدة في مجملها من قواعد الفقه المالكي بالخصوص.
وقد ورد فيها بصدد إثبات النسب[1]، في الفصل التاسع والثمانين :
"يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الأب أو بشهادة عدلين أو بينة السماع بأنه ابنه ولد على فراشه من زوجته".
وجاء فيها بخصوص نفي النسب في الفصل التسعين:
"لا ينتفي الولد من الرجل أو حمل الزوجة منه إلا بحكم القاضي"،
وفي الفصل الواحد والتسعين:
"يعتمد القاضي في حكمه على جميع الوسائل المقررة شرعا في نفي النسب".
ومن هذه النصوص القانونية، يتبين أن المدونة القديمة لم تكن تتضمن أي إشارة صريحة، إلى إمكانية الاعتماد على الخبرة الطبية عامة، لإثبات أو نفي النسب، وخصوصا في وجهها المعتمد على الهندسة الوراثية، والذي أثبت نجاعته في الوقت الحالي، وتبنته الكثير من التشريعات المقارنة[2].
لكن بالمقابل، لم تكن تتضمن هذه النصوص صراحة، ما يفيد عدم إمكانية اللجوء إلى الخبرة الطبية بكل أشكالها في هذا المجال، خصوصا وأن المدونة القديمة كانت في جوانب أخرى منها تأخذ بالخبرة الطبية.
فقد تضمن الفصل السابع أن للقاضي أن يأذن للمجنون والمعتوه بالزواج "إذا ثبت بتقرير من هيئة طبية من أطباء الأمراض العقلية" أن الزواج سيفيده في العلاج، ووافق الطرف الآخر على ذلك بعد علمه به.
وتضمن الفصل الواحد والأربعين بعد تعديلات شتنبر 1993[3]، أنه من ضمن الوثائق الواجب الإدلاء بها من قبل الخاطب والمخطوبة أمام العدلين قصد الزواج بالمغرب : "شهادة طبية تثبت الخلو من الأمراض المعدية"[4].
وورد كذلك في الفصل الرابع والخمسين المتضمن لقواعد التطليق للعيب آنذاك، إشارة صريحة إلى إمكانية الاستعانة "بأهل الخبرة من الأطباء في معرفة العيب"[5].
وكان الفصلين الخامس والسبعين والسادس والسبعين المتعلق بالمنازعات التي قد تحصل بخصوص ادعاء وجود حمل أو نفيه، إمكانية اللجوء إلى أهل الخبرة من الأطباء للفصل في الأمر وذلك على الشكل التالي:
ف. 75 : "إذا ادعت المعتدة الريبة في الحمل ونوزعت في ذلك عرضت على أهل الخبرة".
ف. 76 : "أقصى أمد الحمل سنة من تاريخ الطلاق أو الوفاة، فإذا انقضت السنة وبقيت الريبة في الحمل رفع من يهمه الأمر أمره إلى القاضي ليستعين ببعض الخبراء من الأطباء للتوصل إلى الحل الذي يفضي إلى الحكم بانتهاء العدة أو إلى امتدادها إلى أجل يراه الأطباء ضروريا لمعرفة ما في البطن هل هو علة أم حمل".
وإضافة إلى هذه النصوص الصريحة، هناك بعض النصوص الأخرى التي كانت تحيل ضمنيا على الخبرة الطبية، ما دام تفعيلها عمليا يتوجب ذلك[6].
ومنها ما تعلق بأحوال مرض الموت والإقرار بالنسب (ف.92)، والسلامة من كل مرض معد لإمكانية الحصول على الحضانة (ف.98)، وقواعد الحجر بسبب الإصابة بالجنون أو العته (ف.145)[7].
يتبين مما سلف أن نصوص مدونة الأحوال الشخصية القديمة في مجال إثبات ونفي النسب، لم تكن تبين بوضوح موقف المشرع من اعتماد البصمات الوراثية في هذا المجال، لكن مع ذلك كان القضاء المغربي يستبعدها صراحة كما هو ظاهر في اجتهاداته.
الفقرة الثانية : الاستبعاد القضائي
لقد استقر الاجتهاد القضائي المغربي قبل صدور مدونة الأسرة الجديدة على رفض اعتماد الخبرة الطبية عامة، كوسيلة من وسائل إثبات أو نفي النسب، رغم الاعتداد بها في ميادين أخرى عند بته في منازعات تهم الأحوال الشخصية.
وقد برر القضاء آنذاك مسعاه هذا بعدم ورود في المدونة السارية المفعول آنذاك، نصوص صريحة تشجع على اعتمادها، ثم إنه ليس في الفقه الإسلامي ما يثبت بوضوح اللجوء إليها في هذا المجال.
فقد ورد في قرار للمجلس الأعلى بتاريخ 25 يناير 1994 : "إن العارض طلق المطلوبة في النقض بمجرد خروجها وبين للمحكمة أن الولد ليس من صلبه لأنه عقيم ولكونه مريض، وقد زكى ذلك بشواهد طبية وبتحليلات علمية، وأنه خال من الحيوانات المنوية، وأن المحكمة الابتدائية سبق لها أن أصدرت قرارا تمهيديا قضى بإجراء خبرة طبية إلا أنها تراجعت عنه، دون تعليل … إن العبرة بموافقة الحكم للنص الفقهي الذي اعتمده الحكم الابتدائي نقلا عن الزرقاني في باب اللعان حيث قال : "لا يعتمد على العقم حتى يلاعن إلخ، كما أن الخبرة بالمرحلة الابتدائية التي رجعت عنها المحكمة الابتدائية لم يتمسك بها الطاعن أمام محكمة الاستئناف التي اقتصر ردها على ما أثاره الطاعن، الأمر الذي يجعل ما نعاه السبب لا أثره له"[8].
فالمجلس الأعلى هنا أكد ما ورد في الأحكام الابتدائية والاستئنافية، من رفض الخبرة الطبية، ورفض بذلك طلب المدعي الذي حاول استغلال "الهفوة" التي سقطت فيها المحكمة الابتدائية في مرحلة أولى بإصدارها لحكم تمهيدي قبلت فيه اللجوء إلى الخبرة الطبية، لكن سرعان ما استدركت "هفوتها"[9] ورفضت طلبه في الحكم النهائي.
وفي قرار آخر للمجلس الأعلى بتاريخ 8 شتنبر 1992 جاء في إحدى حيثياته : "… لكن ردا على الأسباب أن محكمة الاستئناف لما عللت قرارها بأن الولد للفراش وفسرت مضمونه وردت على الشهادة الطبية بأنها غير كاملة وتبنت كذلك تعليل الحكم الابتدائي الذي رد على الفحص الطبي الذي أثبت أن قدرة الطاعن على الإنجاب ضعيفة جدا ومنعدمة تقريبا لا يفيده لفوات أوانه ولمخالفته للقواعد الفقهية تكون طبقت الفصل 89 تطبيقا سليما"[10].
ويتبين من هذا القرار أن المجلس الأعلى، أكد في ظل المدونة القديمة مع المحاكم الدنيا رفض الاعتماد على الخبرة الطبية في مجال النسب، لأن ذلك "يخالف القواعد الفقهية".
والمقصود هنا "بالقواعد الفقهية"، "قواعد الراجح والمشهور وما جرى به العمل من مذهب الإمام مالك"، التي كانت كتب المدونة القديمة تحيل عليها في حالة سكوت النص، باستثناء الكتب المتضمنة لقواعد الزواج والولادة ونتائجها.
ويظهر ما يؤكد استبعاد القضاء المغربي للخبرة الطبية قبل فبراير 2004 في مجال إثبات ونفي النسب، في قرار آخر للمجلس الأعلى، بتاريخ 15 شتنبر 1991، ورد فيه : "يلتجأ للتحليل الطبي لمعرفة ما في الرحم علة أو حملة إذا بقيت الريبة في الحمل بعد انقضاء السنة من تاريخ الطلاق أو الوفاة، ولا يلتجأ إلى هذه الوسيلة في نفي النسب، فالفصل 91 من مدونة الأحوال الشخصية ينص على أن القاضي يعتمد في حكمه على جميع الوسائل المقررة شرعا في نفس النسب، وليس من بين هاته الوسائل وسيلة التحليل الطبي"[11].
إن المجلس الأعلى في هذا القرار، استبعد صراحة وسيلة التحليل الطبي عامة، كوسيلة يمكن الاعتداد بها في نفي النسب، فقد اعتبر أن إمكانية اللجوء إلى الخبرة الطبية يقتصر حسب تفسيره للفصل 91 من المدونة القديمة على الرغبة في معرفة ما في الرحم علة أم حمل، وذلك بشرط مرور سنة على الأقل، من تاريخ الطلاق أو الوفاة.
بل إن المجلس الأعلى ذهب في هذا القرار أبعد من ذلك، باعتباره صراحة أن وسيلة التحليل الطبي ليست من الوسائل "المقررة شرعا"، والممكن اعتمادها من قبل القاضي في نفي النسب.
وقد سبق للمجلس الأعلى أن أكد موقفه هذا في قرار آخر صادر بتاريخ 9 فبراير 1982، ورد في منطوقه :
"… حيث إن قاعدة الولد للفراش لا يجوز دحضها إلا بالوسائل المقررة شرعا لنفي النسب وأنه إذا كان الشرع والقانون يعتدان برأي الخبرة من الأطباء في عدة مسائل فإنهما لم يعتدا برأيهم فيما يرجع لنفي النسب استنادا إلى عدم قابلية الزوج للإخصاب ما دام في وسع ذلك الزوج نفي النسب عن طريق اللعان …"[12].
ونفس التوجهات والبراهين اعتمدها المجلس الأعلى في قرار له آخر، سابق على هذه القرارات، حيث أكد في هذا القرار الصادر بتاريخ 15 شتنبر 1981، ما قررته محكمة الاستئناف من كون "التحليلات الطبية التي تثبت العقم لا يعتمد عليها في نظر الشرع"، والتي رفضت بذلك طلب الزوج عدم إلحاق الولد به.
وقد جاء في إحدى حيثيات قرار المجلس الأعلى هذا : "إن ما قضى به الحكم المطعون فيه يجد أساسه في الفصل 91 من مدونة الأحوال الشخصية الذي ينص على أن القاضي يعتمد في حكمه على جميع الوسائل المقررة شرعا في نفي النسب وليس من بين هاته الوسائل وسيلة التحليل الطبي"[13].
ويظهر إذن من التوجه القضائي المغربي قبل صدور مدونة الأسرة الجديدة، رفض الاستناد على الخبرة الطبية عامة في إثبات أو نفي النسب، وبالأحرى الاعتماد على البصمات الوراثية.
وأكثر من هذا اعتبرت الاجتهادات القضائية آنذاك صراحة، عدم تقرير فقه السلف لهذه الوسيلة، من ضمن وسائل إثبات ونفي النسب، بل ذهبت إلى اعتبار تلك الوسيلة تخالف ما قرره الشرع.
إن هذا التوجه القضائي لم يكن يستند على مبررات نصية صريحة، وليست له مبررات واقعية وعلمية مقبولة، فيمكن أن نستمد من فقه السلف سند الاعتداد بالخبرة الطبية عامة في هذا المجال، وذلك ما أخذه بعين الاعتبار المشرع عندما أصدر مدونة الأسرة الجديدة، وإن كان ذلك بنوع من التردد المليء بالدلالات.
المبحث الثاني: مرحلة الأخذ "بالخبرة"
تم إدراج سند الأخذ بالخبرة عامة، في مدونة الأسرة الجديدة الصادرة في فبراير 2004، ويمكن الاعتماد على اجتهادات فقه السلف في هذا المجال (الفقرة الأولى)، كسند لاعتماد الخبرة الطبية عامة، والهندسة الوراثية خاصة (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: السند لدى فقه السلف
خلافا لما أقره الاجتهاد القضائي المغربي خلال سريان مدونة الأحوال الشخصية القديمة، فإنه من الثابت لدى الكثير من فقهاء الإسلام، الاعتماد على وسيلة قريبة من الخبرة الطبية في قواعدها وشروطها، في إثبات النسب.
وهذه الوسيلة هي ما يعرف "بالقيافة" ، ومعناها قيام "القائف" بتأكيد وجود علاقة نسب بين الأب والولد، بالاعتماد على تشابه جسديهما وأقدامهما بالخصوص.
وهذه الوسيلة يتم اللجوء إليها حسب الفقهاء، إذا دعت الضرورة لذلك، وأمام غياب وسيلة أخرى.
والقيافة لا يمكن أن يمارسها، شأنها شأن الطب، سوى الشخص المعترف له بالخبرة في الميدان، من خلال معرفته وحسن اطلاعه بمظاهر الشبه الممكن أن تنتقل من الأب إلى الإبن.
وقد ثبت في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، الاعتداد بشهادة القائف في تأكيد نسب طفل لأبيه، وفي ذلك ورد عن عائشة رضي الله عنها : "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال : ألم ترى أن مجزرا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض"[14].
وقد لجأ الخلفاء الراشدين والصحابة والكثير من التابعين، لخبرة القائف في هذا المجال وفي عدة مناسبات.
كما عمل بها الإمام مالك، والشافعي، رغم رفضها من قبل أبي حنيفة وأصحابه لاعتبارهم أنه لا يجوز الاعتماد على القائف لأن عمله ينبني على مجرد التخمين[15].
أما في ما يخص نفي النسـب، فقد ثبت لـدى الفقـه المـالكي إمكـانية اللجـوء إلى "أهـل المعرفة"[16].
وقد اعتبر بعض فقهاء المذهب أن المقصود بأهل المعرفة هم النساء، بينما أدرج معهم البعض خبراء الطب[17].
ويمكن بالتالي الاعتماد على ما ورد عند الكثير من فقهاء السلف كسند للأخذ بالخبرة الطبية، ويزكي ذلك التطورات العلمية منقطعة النظير التي عرفتها الأبحاث في علم الهندسة الوراثية، وإن اعتماد الكثير من الفقهاء القدامى للقيافة كإحدى أوجه الخبرة، يبرر اللجوء إلى الخبرة الطبية عامة والهندسة الوراثية خاصة.
فقد ثبت أن مذهب مالك والشافعي يأخذان بالقيافة كوسيلة لإثبات النسب، وما دامت القيافة تعتمد الخبرة، فهذا يبرر الاعتداد بالخبرة الطبية بالأساس، خصوصا في الوقت الحالي الذي عرفت فيه العلوم الطبية تطورا يمكن من إثبات النسب بشكل أكثر قطعية.
وبالنسبة لنفي النسب، فثبوت الاعتماد على "أهل المعرفة" من قبل الإمام مالك، يكفي للقول بإمكانية الاعتماد على الخبرة الطبية في جانبها اليقيني، الذي يعتمد على البصمات الوراثية دون فصيلة الدم أو الشهادة الطبية بالعقم.
الفقرة الثانية : الاعتداد بالخبرة الطبية
إضافة إلى المبررات المستمدة من فقه السلف، هناك مبررات أخرى واقعية، تدعم الدعوة إلى اعتماد الخبرة الطبية عامة والهندسة الوراثية خاصة، في مجال إثبات ونفي النسب[18].
ومن هذه المبررات كثرة المنازعات المطروحة أمام القضاء بصدد إثبات ونفي النسب، ويشجع ذلك كثرة عقود الزواج غير الموثقة في المغرب، فمدونة الأسرة لا زالت تسمح بالاعتداد بعقود الزواج التي لم تحترم شكلية الإشهاد بالكتابة أمام العدلين وإن حصرتها النصوص الجديدة في فترة زمنية لا تتجاوز خمس سنوات بعد صدورها.
فهذه الهفوة القانونية، تشجع الآباء ذوي النية السيئة على نفي نسب أولادهم في أحيان كثيرة[19].
وبناء على هذه المعطيات فإن اللجوء إلى البصمات الوراثية، كوسيلة قطعية وحاسمة، ستقلل من مثل هذه القضايا، وتساعد القضاء على تحقيق العدالة والإنصاف، وإنقاد الكثير من الأطفال والنساء من الضياع، فشهادة اللفيف، تضلل القضاء في أغلب الحالات أكثر مما ترشده[20].
وإن تبرير إمكانية الاعتماد على الاكتشافات الطبية الحديثة، في ميدان علم الوراثة (أو ما يعرف بالجينات) لإثبات النسب، يرتكز على خبرة الطبيب في هذا المجال، فهذه الخبرة هي التي تبرر إمكانية اللجوء إليه، شأنه شأن خبرة القافي في مجاله[21].
وإذا كان الثابت أن الفقه الإسلامي لم يعتمد الخبرة الطبية في النسب لخطورة هذا المجال، رغم أن فقهاء الإسلام قطعوا أشواطا كبيرة في علم الطب، فإنه وأمام التطور المنقطع النظير الذي عرفه الطب في هذا المجال في الوقت الحاضر، فإنه من غير المقبول الاستمرار في تجاهل خبرته من قبل القضاء المغربي، خصوصا وأنه وسيلة جديدة، قد تساعد القاضي على الوصول إلى الحقيقة التي هي مناط العدالة[22].
وقد أخذ المشرع المغربي في مدونة الأسرة الجديدة، بعين الاعتبار هذه الآراء، لكن لم يتخلص من التصور الذي كان سائدا، والذي مفاده تعارض الخبرة الطبية مع قواعد الفقه الإسلامي.
ويظهر ذلك من خلال النص في المادة 153، على أن نفي النسب لا يمكن أن يتم من قبل الزوج سوى عن طريق اللعان أو بواسطة "خبرة" تفيد القطع، مع الالتزام في كل الأحوال بشرطيه :
- "إدلاء الزوج المعني بدلائل قوية على ادعائه.
- صدور أمر قضائي بهذه الخبرة"
كما يظهر ذلك من خلال النص في المادة 158 على أنه : "يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الأب، أو بشهادة عدلين، أو ببينة السماع، وبكل الوسائل الأخرى المقررة شرعا بما في ذلك الخبرة القضائية".
فالمشرع في هذين النصين أورد السند القانوني، الذي يمكن أن يستند إليه القاضي في الاستعانة بالخبرة في مجال إثبات ونفي النسب.
والمقصود بهذه الخبرة بالأساس، خبرة الطبيب، الذي يعتمد على أحدث التطورات العلمية، في هذا المجال، والمرتكزة على البصمات الوراثية، المعروفة في علم الجينات، وهذا ما ورد تأكيده في الدليل العملي لمدونة الأسرة، الذي أصدرته وزارة العدل، في معرض تفسير مضمون المادة 153.
ويظهر من النص أن المشرع جد متأثر بتطور النقاش في أوساط الفقه والقضاء والمجتمع المدني المغربي، حول هذا الموضوع، بشكل جعله لا يشير بوضوح إلى الخبرة الطبية، وإلى وسيلة البصمة الوراثية وعلم الجينات، خصوصا وأنه هناك من لا زال يتحفظ على هذه الوسيلة، بمبرر أن لا سند لها في الشريعة الإسلامية.
وإذا كان المشرع قد تحفظ على الإشارة الصريحة إلى الخبرة الطبية في مجال النسب، فإنه نص عليها بوضوح في مواد أخرى كالمادة 20 المتعلقة بزواج القاصر، وفي المادة 23 المتعلقة بزواج المعاق ذهنيا، والمادة 222 المتعلقة بإقرار الحجر ورفعه والتي تعتمد فيه المحكمة على خبرة طبية.
وأكثر من هذا، فإن هناك نقاش حول مجال الاعتداد بهذه الوسيلة، وسلطة القاضي في هذا المجال.
فهل يمكن اللجوء إليها في جميع حالات إثبات ونفي النسب، وهل القاضي ملزم باعتمادها، بمجرد طلبها من أحد الأطراف أو من تلقاء نفسه، وما هي سلطات القاضي في هذا المجال؟
إن القانون الفرنسي، الذي أخذ بهذه الوسيلة في المادة 16 (الفقرة 11) من القانون المدني، وفق تعديل أدرجه بقانون 22 يوليوز 1994، ربط اللجوء إلى هذه الوسيلة بصدور أمر قضائي بذلك، في إطار دعوى جارية، تتعلق بإثبات أو نفي النسب أو أداء أو التحلل من أداء النفقة.
وبالتالي فإن اللجوء إلى هذه الوسيلة لإثبات أو نفي النسب خارج الإطار القضائي، وبمبادرة خاصة، يعتبر جرما معاقبا عليه بمقتضى الفقرة 28 من المادة 226، من القانون الجنائي الفرنسي، التي حددت مدة العقوبة في سنة حبسا وغرامة تصل إلى 15.000 أورو.
والقاضي له سلطة تقديرية في القانون الفرنسي، في تقرير جدوى اللجوء إلى هذا النوع من الخبرة الطبية.
والقاضي عليه قبل تقرير هذه الخبـرة، الحصــول على الموافقة الصريحة للأطراف المعنيـة بالنـزاع.
وفي حالة رفض أحد الأطراف اللجوء إلى الخبرة الجينية، فإن القاضي آنذاك يملك كامل السلطة في اتخاذ المستنتجات المترتبة على هذا الرفض.
وقد نصت المادة 16 من القانون المدني الفرنسي، في فقرتها 12، على أنه لا يسمح بممارسة الخبرة بالارتكاز على علم الجينات، سوى للأشخاص المرخص لهم بذلك وفق قانون 6 فبراير 1997، المتعلق بممارسة الخبرة، وبعد تسجيلهم بقائمة الخبراء القضائيين.
وبالرجوع إلى القانون المغربي، نجد بأن المشرع المغربي، لم يدرج التفاصيل العملية المتعلقة باللجوء إلى الخبرة المرتكزة على علم الجينات، لأنه لم يعتمدها أصلا صراحة.
وبالرجوع إلى الاجتهاد القضائي المغربي الجديد، الصادر بعد دخول المدونة الجديد حيز التنفيذ، نجد أنه أقر أهمية اللجوء إليها، وهذا ما يظهر من خلال قرار المجلس الأعلى بتاريخ 9 مارس 2005، والذي ورد في إحدى حيثياته : "إنه كان على المحكمة أن تبحث في وسائل الإثبات المعتمدة شرعا ومنها الخبرة التي لا يوجد نص قانوني صريح يمنع المحكمة من الاستعانة بها، والمحكمة لما اكتفت بالقول ردا على ملتمس إجراء الخبرة بأن ما تمسك به الطالب يخالف أصول الفقه والحديث الشريف دون اعتماد نص قاطع في الموضوع، فإنها لم تضع لما قضت به أساسا وعرضت قرارها بذلك للنقض"[23]. كما أقرت اجتهادات قضائية دنيا أخرى الكثير من القـواعد، التي يستحضر فيها ضمـان تطبـيق سليـم لهذه التقنيـة.
ومن ذلك إسناد كل القرارات التمهيدية التي اطلعنا عليها، والمتعلقة بإجراء الخبرة الجينية، هذه المهمة، إلى مختبر الشرطة العلمية، التابع لمديرية الشرطة القضائية بالإدارة العامة للأمن الوطني، لما يتوفر عليه من إمكانات تقنية، وكفاءات بشرية، بشكل يضمن مصداقيـة وقطعـية الخبـرة كما اشترطه النص[24].
كما أن القضاء المغربي يمارس سلطته التقديرية في هذا المجال، ولا يلجأ دائما إلى هذه الخبرة، ومن ذلك ما ورد في قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء الصادر بتاريخ 29 ماي 2006[25]، والذي لم يستجب لطلب الزوج إجراء الخبرة، نظرا لكون "نسب الولد يثبت بفراش الزوجية إذا ولد الولد خلال سنة من تاريخ الفراق كما نصت على ذلك المادة 154 من مدونة الأسرة.
وحيث إن البنت غزلان ازدادت في 9 شتنبر 2003 ، وكان الخلاف بين الطرفين قد تم في 7/11/2002 أي أنها ولدت داخل أجل السنة المشار إليه في المادة 154 المذكورة مما يتعين معه القول بتأييد الحكم المستأنف الذي رفض طلب المستأنف الرامي نفي نسب البنت المذكورة نظرا لمصادفة هذا الحكم للصواب …"
ويلاحظ من الكثير من القرارات، أن القضاء المغربي بدوره اعتمد نهج المشرع الفرنسي، من خلال ترتيب نتائج رفض الرجل الخضوع للخبرة الجينية أو عدم الامتثال لموعد إجرائها لاحقا، فأقر لحوق النسب.
ومن ذلك قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، بتاريخ 29 ماي 2006[26]، والذي اعتبر في حيثياته أن : "عدم حضور المستأنف لدى الجهة المكلفة بإنجاز الخبرة الجينية المأمور بها رغم استدعائه ودون إدلائه بأي عذر مقبول يعتبر إقرارا منه بنسب الابن".
وقد وردت نفس الحيثيات في قرار آخر لمحكمة الاستئناف وبالدار البيضاء بتاريخ 20/2/2006[27] :
"وحيث إن النسب يثبت بالظن، والبنوة الأصل فيها أنها شرعية إلى أن يثبت العكس واعتبارا لما سبق تفصيله من ملابسات النازلة … ورفض المستأنف عليه الحضور لإجراء الخبرة الجينية المأمور بها فإن الأصل يبقى هو الثابت واستبعاد نسب الولد يونس-فيصل هو الاستثنـاء والذي لم يسـع المتمسـك به إلى تـأكيده، وبالتـالي فهو غير ثابت".
وهنا يمكن أن نلاحظ على الكثير من القرارات القضائية، التي ترتب النسب بناء على عدم امتثال الأب للخبرة الطبية، أنها لا تبين في حيثياتها، كما هو مقرر في القانون الفرنسي، المـوافقة المبـدئية ورضا الأب أو عـدمهما، وتنتظـر عـدم الامتثال العملي للأب لإجراء الخبرة.
فهذا الشرط الذي أدرجه المشرع الفرنسي، له أهمية كبيرة في تسريع وثيرة فصل القاضي في النزاع، بحيث أن القاضي عند اتخاذه قرار إجراء الخبرة الجينية، عليه قبل ذلك الحصول على موافقة ورضى أطراف النزاع وخصوصا الأب، الذي غالبا ما يكون هو الذي يبادر بطلب نفي النسب.
فالسهر على التحقق من وجود هذا الرضى أو عدمه، يمكن القاضي حال عدم وجود الرضى، وتسجيل ذلك في حيثيات القرار، من ترتيب النتائج بسرعة، ربحا للوقت، واقتصادا للمجهود وتخفيفا للأعبـاء على المرأة والطفــل، وتمكينـهم من حقوقهم في أسرع وقت ممكن.
وهذا الإجراء سهرت عليه محكمة الاستئناف من خلال ما يظهر في حيثيات قرارها، الصادر بتاريخ 27/3/2006، والذي ورد فيه أن القاضي : "عرض عليه طلب إجراء خبرة على الحامض النووي فأقر بأنه ما دامت تساهم في حل المشكل فهو لا يعارض، وصرحت المستأنف بدورها أنها مستعدة بذلك، ودون ذلك بمحضر الجلسة …"[28].
ويلاحظ من حيثيات الكثير من القرارات القضائية التمهيدية، الآمرة بإجراء الخبرة الجينية، أنها تحدد آجال تسليم نتائج الخبرة في شهرين، وقيمة أتعابها في 3000 درهم، وتلزم المستأنف عليه بأدائها داخل آجال تتراوح بين 15 و20 يوما، من تبليغ الإشعار إليه، تحت طائلة صرف النظر عن الإجراء، إن مر هذا الأجل بدون أداء[29].
وقد ورد في التقرير الختامي للأيام الدراسية، التي نظمتها وزارة العدل حول "الإشكاليات العملية في مجال قضاء الأسرة والحلول الملائمة لها"، أنه "يمكن الاستجابة لطلب المساعدة القضائية بخصوص الخبرة على الحمض النووي، إذا كانت مصاريفها مرتفعة، في الوقت الذي يكون فيه الطلب الأصلي قد أديت عنه الرسوم القضائية”[30].
هذا وإذا كانت مدونة الأسرة لم تنص صراحة على الخبرة الطبية المعتمد على البصمة الوراثية، فإن القضاء المغربي، من خلال اجتهادات كرس هذا الأمر بوضوح، كما هو ظاهر من عدة اجتهادات، فساهم بذلك في تطوير الممارسة العملية في هذا المجال، وسيمكن من خلال تطبيقاته من إبراز فعالية هذه الوسيلة في تحقيق العدالة والإنصاف.
ويظهر هذا التوجه القضائي في القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، بتاريخ 28 نونبر 2005[31]، والذي ورد في إحدى حيثياته :
"وحيث إنه طبقا للمادة 158 من مدونة الأسرة يثبت النسب بكل الوسائل الأخرى المقررة شرعا بما في ذلك الخبرة القضائية.
وحيث قررت المحكمة إجراء خبرة طبية للتأكد من تطابق جينات المستأنف وجينات الولد زكرياء، وأفادت الخبرة بأنه بعد إجراء خبرة لتحديد العلاقة البيولوجية ما بين الولد المذكور ابن السعدية قمر، والمسمى محمد وليد، وبعد أخذ عينة من لعاب كل الأشخاص المذكورين ثبت لها بنوة الطفل زكرياء للمسمى وليد محمد".
خاتمة
يلاحظ من خلال القرارات التي اطلعنا عليها أن القاضي، يمارس سلطته التقديرية، في اللجوء إلى الخبرة الطبية أو عدم اللجوء إليها، ويظهر من خلال صياغة الكثير من الأحكام والقرارات أن القاضي يحتفظ لنفسه بسلطة الأخذ بنتيجتها أو عدم الاعتداد بها كما هو شأن باقي الخبرات، التي يلجأ إليها القاضي، على سبيل الاستئناس، أخذا بعين الاعتبار ما سبق أن أشرنا إليه بخصوص موضوع الخبرة الطبية في موضوع النسب، بحيث لم يشر إليها المشرع صراحة ولم يلزم القاضي بها، فهو قد يلجأ لها، اعتبارا لظروف كل حالة، وعلى حسب خصوصية كل نازلة، والوثائق المدلى بها.
فالأمر حتى في هذا النوع من الخبرات، ذات الطبيعة القطعية، يظل خاضعا للسلطة التقديرية للقاضي، الذي يقيم قيمتها الإثباتية، بناء على قناعاته الشخصية، فله أن يأخذ بها، وله أن يصرف النظر عنها إذا لم يقتنع بها أو يطمئن لها.
ويبقى للممارسة القضائية مسؤولية وضع قواعد واضحة المعالم في هذا المجال، في غياب نصوص صريحة ومفصلة.
د. خالد برجاوي أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق السويسي-الرباط
رئيس شعبة القانون الخاص | |
|